التلفزيون (قصة قصيرة) الجزء الثالث

التلفزيون (قصة قصيرة) الجزء (3)


(3)

أفقت فجأة أتنفس بسرعة، يسيل لعابي ودموعي ومخاطي ويدي باردة كالثلج. كان صوت التلفاز ثانية، يخرق طبلة أذني. هذه المرة كأن أحدهم انتزع طبلة أذني وصنع منها درامز يدق عليه بقوة خرتيت. كانت العجوز مرة أخرى تشغل التلفزيون في منتصف الليل بأعلى صوت سمعته في حياتي، كأنه صوت دي جي في منطقة شعبية بالقاهرة خلال افتتاح مطعم فول وطعمية أو سايبر جديد. الطبول مازالت تدق في دماغي، أشعر بالدوار، توجهت إلى الباب في الظلام، لا أرى شيئا، كل شيء ضبابي، اصطدمت بكرسي ودهست ذيل القط ( شياوبي) المسكين فخربشني بقسوة. فتحت الباب ودمي يغلي، طرقت باب الجيران بعنف لم أتوقعه من نفسي، كادت الدماء تنفجر من كفي. صحت بالصينية أن افتحوا الباب يا غجر، لا نستطيع النوم، سأطلب الشرطة ولن ينفعكم محاولة تصنع ” العبط” يا غجررررر. لم يرد أحد وظل صوت الدي جي، أقصد التلفاز يرج جنبات الشقة، وظلت الطبول تدق رأسي، مع كل ضربة تبرز عيني من محجريها مثل شخصيات الأفلام الكارتون.

هاتفت إدارة المجمع السكني في اليوم التالي، ردت سيدة صوتها هادئ وناعم للغاية، قالت لي ببرود يليق بأمين شرطة يتلقى البلاغات في قسم إمبابة: نعم نعم، سنبحث الأمر ونتحدث لجيرانك ونحل المشكلة، هل لديك أمر آخر؟ لا، إذن مع السلامة.

مرت أيام ومازال الأمر كما هو، يدخل الليل هادئا، إلى أن تحين الساعة ال12 بعد منتصف الليل فيبدأ الحفل. حفظت برامج التلفزيون المركزي الصيني عن ظهر قلب. الثانية عشر إعادة مسلسل يحكي عن الحرب اليابانية الصينية وويلات ما عاناه الشعب الصيني، الساعة الواحدة برنامج أطفال لمذيع لزج يقلد صوت فتاة. الساعة الثالثة برنامج حواري يناقش مشاكل العلاقات الدولية.

أصبحت حياتي ما بين نائم نصف مستيقظ ، ومستيقظ نصف نائم، واستمر الأمر أكثر من ثلاث سنوات، نتحدث إلى الجارة فلا تعيرنا اهتماما بحجة أنها لا تسمع، نستدعي الشرطة ولكنها تفشل في التوصل لحل لأنهم عجائز ومن الصعب “جرجرتهم” في أقسام الشرطة، إلى أن استسلمت لسماع فقرات الدي جي اليومية وتصالحت مع الهالات السوداء ووقعت في غرام حالة قلة النوم التي تضعني في مصاف المحششين و مدمني الهيروين. رضينا بالقدر، واعتبرنا ذلك اختبار رباني للصبر. ولكني لم أتوقف عن رمق العجوز الشريرة بنظرات تحمل كرها كلما رأيتها تنتظر المصعد أو تشتري الخضروات من المحل المجاور للبيت. فما بيني وبينها ثأر لا يمحى.

وفي صباح أحد الأيام، فتحت الباب فرأيت عمالا ينقلون “كراكيب” الجيران، أشياء غابت معالمها بفعل الغبار الذي يعلوها، وأكوام من الملابس البالية تفوح منها رائحة العطن. كان هناك شابا عشرينيا، أجش الصوت، بذيئا، يصرخ في العمال ليسرعوا قليلا فالأشياء بالداخل مثل جبل يزداد كلما أخذت منه. كلما فتحت خزانة تجد بداخلها أشياء مخفية وصندوق يهوى على رأسك وأخر يصطدم بكتفك وأكياس فارغة وأدوات هنا وماكينات هناك.

وقف الشاب أشعث الشعر وسط كومة القمامة يصرخ كالمجنون، أسرعوا! تلمست طريقي وسط الغبار والكراكيب بحركات بهلوانية، كدت أسقط على الأرض ولكن الحمد لله، استندت على دراجة ابنتي الملقاة أمام الباب لأستعيد توازني. اختلست النظر إلى داخل شقة الجيران، لم أرى أحدا منهما، فقط هذا الشاب العشريني الذي حدق في وجهي وبدا مرتبكا من وجود شخص أجنبي وسط هذه القمامة يختلس النظر. مضيت في طريقي إلى العمل وعقلي لم يتوقف عن السؤال عما حدث لجيراني.