التلفزيون (قصة قصيرة) الجزء الرايع- الأخير

التلفزيون (قصة قصيرة) الجزء (4)


(4)
قضيت الليلة أفكر، هل أطرق بابهم وأطمئن، هل أسأل ذلك الشاب غدا، لا هذه فكرة بائسة فقد يتشاجر معي ويسدد لي لكمات لن تسعفني لياقتي لردها. اليوم هو الأول منذ ثلاث سنوات الذي لم يعد لصوت التلفزيون أثرا في شقتي، رغم ذلك ظللت أتقلب في سريري، أنظر في هاتفي تارة، وأقرأ تارة أخرى ثم أنهض أتمشى في الغرفة ثم أعود أدفن رأسي بين وسادتين. لم استطع النوم رغم عودة الهدوء المفقود.

في اليوم التالي، بعدما تناولت إفطاري اقتربت من جدار الغرفة المجاورة لشقة جيراني، أحاول سماع ما يدور في الجانب الأخر. يبدو أن هناك أكثر من شخص، يتحدثون ويصدرون أصواتا غير واضحة لي. لم أفهم ما يقال ولكن شيء ما يحدث. فتحت الباب فوجدت ما توقعته، رجال أشداء يحملون تابوتا، هلعت وتسمرت مكاني من هيبة الموقف، يبدو أن أحدهما قد مات.

انتظرت قليلا حتى هبط الرجال والتابوت في المصعد، قررت أن أهبط الدرج، رأيت سيارة مرسيدس سوداء ضخمة مثبت عليها بوكيه من الورد الأبيض المائل للأصفر، لون الحزن والموت عند الصينيين، تقل العربة الموتى إلى المحرقة طبعا، فالصينيون يحرقون موتاهم ثم يضعون الرفاة في المقابر. تخميني صحيح إذا، أحدهم قد مات. ظللت أتأمل السيارة والتقطت صورة، محاولة لتخليد هذه اللحظة على طريقتي. لم أعلم مَن منهما مات، الرجل أم المرأة. ولكن بعد مرور ثواني رأيت نفس الرجال يحملون تابوتا آخر. يا للحياة، هذا ما لم أكن أتوقعه أبدا، فقد ماتا كلاهما في يوم واحد.

لم أصدق ما رأيته، جلست على كرسي الحديقة المقابل لباب العمارة أتأمل السيارة الفاخرة اللامعة، وبوكيه الورد الأنيق، والحركة الميكانيكية للحانوتية، كنت أبغضهما جدا ولكن لماذا أنا حزين الأن كأني فقدت أحد أقاربي، لم نتحدث يوما. وكانت هذه السيدة سببا في تدهور حالتي الصحية والمزاجية، هذا التلفاز اللعين الذي لم يغلق طوال ثلاث سنوات كان يدمرني بالبطيء.

ظللت جالسا أنظر إلى السيارة تغادر المجمع السكني، وأنا عاجز عن الحركة، تسمرت مكاني، ظننت أنني سأتحول إلى تمثال من الأسمنت إلى أن أجبرتني برودة الشتاء البكيني العاصف على النهوض. لم أعرف أين أذهب، لا أريد الذهاب إلى العمل، ولا أريد العودة إلى البيت، شعرت باختناق ورغبة حارقة في البكاء. ثم مشيت وسط الأشجار المحيطة بالعمائر، أقول لنفسي كانا بغيضان على أي حال الآن سأنعم براحة مستحقة بعد عناء كابدته لسنوات، أطلقت زفرة راحة تشبه ما تشعر به بعد جلسة ماساج تايلاندي.

عدت إلى البيت في المساء، يختلط شعور الأسى والفرح في قلبي، لا أعرف أي شعور سينتصر في النهاية. خلدت إلى النوم، ولكني استيقظت فجأة في الساعة الثانية عشر، منتصف الليل، إنه صوت التلفاز مرة أخرى، هل هذا حلم أم حقيقة؟ نهضت سريعا، وفتحت الباب بحذر وبعض الخوف، فقد رأيت جثتيهما تخرج أمام عيني، من الذي يشغل التلفاز؟ أنصت السمع فلا أسمع شيء، فقط الصمت يغطي المكان. عدت إلى فراشي، وبمجرد أن يداهمني النوم، أسمع صوت التلفاز المعتاد يخرق طبلة أذني، وبمجرد أن أنهض ينقطع الصوت مرة أخرى.

ظل الأمر كذلك لعدة أيام إلى أن حل الصمت تماما، أعتقد أنها كانت هلاوس أو أحلام يقظة فثلاث سنوات ليست بالقليلة. ما أثار دهشتي هو أنني مازالت لا أستطيع النوم مع غياب صوت التلفاز، ولا حتى أنعم بالنوم المتقطع الذي اعتدته في السابق. بعد عناء أكثر من شهر مع انعدام النوم، والاعتماد على الحبوب المنومة وخلافه. نهضت الساعة الواحدة صباحا، أفرغت الحبوب المنومة في المرحاض، نظرت إلى المرآة طويلا أتفحص الهالات السوداء العميقة، وألمسها بحب وألفة. توجهت إلى الغرفة المجاورة لشقة جيراني، ونفضت التراب عن جهاز التليفزيون الخاص بي، الذي لم استخدمه منذ وقت طويل. عبثت بأزرار الريموت، جلست على الأريكة المقابلة للتلفزيون، وضغطت زرار “أون”، فانفتح التليفزيون بعد القليل من أصوات التز تز تز، اعتقدت أنه سينفجر حتما، ولكن ذلك لم يحدث حمدا لله.

ضغطت زر الصوت، ظهر المؤشر على الشاشة، ضغطت عدة مرات على السهم الأيمن إلى أن امتلأ شريط الصوت عن أخره مشيرا أن درجة الصوت 100%. عدت بظهري إلى الوراء، شعرت بنشوة تجتاحني ببطء، تبدأ من أصابع قدماي صاعدة حتى رأسي، أغمضت عيني واستسلمت للنوم أخيرا.